اكتشاف نقش أثري لكائن غامض يحير علماء الآثار في الصين
اكتشاف نقش أثري لكائن غامض يحير علماء الآثار في الصين
كان علماء الآثار قد عثروا على نقش يمثل كائنا عابس الوجه يرتدي غطاء رأس يزينه الريش ويمتطي وحشا مخيفا.
واحتار العلماء في تفسير هذا النقش الذي يمثل دون شك كائنا يتمتع بقدرات هائلة، ربما تفوق الطبيعة، حتى إنه يُخضع بلا عناء وحشا لديه مخالب حادة بعيونه الجاحظة.
ولكن من يكون؟ هل هو طبيب ساحر؟ أم إله؟ ولماذا جعل المؤرخين يراجعون ما سبق من تصورات عن تاريخ الصين بالكامل؟
تعرفت على هذه الشخصية الغامضة المحفورة على حجر قديم من اليشم في وقت سابق من هذا العام أثناء تصوير حلقات وثائقي جديد من ستة أجزاء لتلفزيون بي بي سي بعنوان “أعظم كنوز الصين”، وهو موجود حاليا في متحف مقاطعة شيجيانغ في مدينة هانغتشو.
اكتشف علماء الآثار الحجر، الأسطواني من الداخل والمربع من الخارج وله مركز أنبوبي الشكل، في مقابر احتوت على رفات شخصيات بارزة لمجتمع معقد في أواخر العصر الحجري الحديث، وازدهر في الألفية الثالثة قبل الميلاد، في موقع ليانغتشو، الذي يقع على بعد نحو 160 كيلومترا جنوب غربي شنغهاي.
كان المؤرخون قبل هذا الاكتشاف يعتقدون أن أسرة شانغ هي أقدم الأسر الحاكمة الصينية المسجلة تاريخيا وقد حكمت خلال العصر البرونزي في الألفية الثانية قبل الميلاد.
نقب العلماء في مقاطعة خنان بامتداد النهر الأصفر، بين أطلال مدن وجدت إبان حكم أسرة شانغ، وعثروا على قطع برونزية دقيقة الصنع، من بينها أوعية تستخدم في مراسم خاصة للطعام والنبيذ وفؤوس نُقشت عليها وجوه مخيفة عابسة، وزُين الكثير من هذه القطع بوجه يشبه القناع لوحش بعيون جاحظة وقرون ملتفة لا يعرف العلماء تحديدا ما المقصود بها.
ثم جاءت الاكتشافات الحديثة في ليانغتشو، الواقعة على الحوض الأدنى لنهر يانغتسي، على بعد أكثر من 965 كيلومترا جنوب شرقي آنيانغ، آخر عواصم أسرة شانغ، لتقلب موازين التسلسل الزمني المعروف لتاريخ الصين.
ويقول الأثريون إن سبب ذلك هو أن حضارة معقدة استوطنت قديما ليانغتشو وخلفت آثارا مدهشة حين ازدهرت قبل 1700 عام من تأسيس أسرة شانغ. وربما كانت تلك الحضارة، المعاصرة للحضارة الكيكلادية بجزر إيجة غربا، هي أقدم حضارة مدنية في شرق آسيا.
ويشير بعض العلماء إلى أن الوحش ذا القرون، المنتشر تجسيده على آثار شانغ، ربما استمد شكله من الوحش الآخر ذي العيون التي تشبه الضفادع على القطع المكتشفة في ليانغتشو وأهمها الحجر الضخم الذي يزن 6.5 كيلوغراما والذي شاهدته بمتحف شيجيانغ.
وكانت أطلال ليانغتشو قد أُدرجت في وقت سابق من العام الجاري على قائمة منظمة اليونسكو للتراث العالمي.
ويتمتع الزائرون لمتحف ليانغتشو بمشاهدة القطع الأثرية المدهشة المكتشفة بين أطلال المدينة، والمتحف من تصميم المعماري البريطاني ديفيد تشيبرفيلد، ويضم العرض الكثير من قطع اليشم التي كانت توارى مع المتوفى، ومنها رؤوس فؤوس وأمشاط زينة وأقراص مستديرة تتوسطها فتحات، أشبه بقطع حلوى نعناع “بولو” المثقوبة.
وكانت مدينة ليانغتشو القديمة تقع عند سفح جبل تيانمو، وكانت مدينة محصّنة تحيطها منطقة مستطيلة الشكل على مساحة 740 فدانا، وتحميها خنادق وأسوار مبنية من الطين بعرض لا يقل عن 19.8 مترا. وكان يدخل الزائرون إلى المدينة عبر بوابة من ثماني بوابات مائية، الأمر الذي يرجح بحسب قول عالمي الآثار، كولين رنفريو وبن ليو، أن ” قنوات وشوارع كانت تخترق المدينة”.
حاضرة بارزة؟
ولا تقتصر الدلائل التي تشير إلى تقدم تلك الحضارة، التي ازدهرت في ليانغتشو ما بين 3300 و2300 عام قبل الميلاد، على القطع الأثرية القيمة التي عُثر عليها بمقابر نبلاء المدينة، بل اكتشفت شبكة سدود ضخمة، وحقول الأرز المستزرعة بعناية حولها والتي وفرت الطعام لسكانها.
كما اكتشف العلماء حفرة كبيرة في المدينة احتوت على بقايا أرز متفحم يقول العالمان رنفريو وليو إنه “ربما تلف بسبب حريق بصومعة لتخزين الحبوب بالقصر القريب ومن ثم جرى التخلص منه بالحفرة”.
ويبدو واضحا أن الغذاء كان فائضا عن حاجة السكان في ليانغتشو بفضل النظام الاجتماعي واتقان وسائل الري، الأمر الذي ساعد في ازدهار الحضارة وتوافر مساحة من الوقت للإبداع.
اهتمت النخبة التي عاشت في ليانغتشو بالفنون وازدهرت على يدها، بفضل التحرر من أعباء الهم اليومي المنصب على توفير لقمة العيش، وليس أدل على ذلك من ولعهم بالنحت بحجر اليشم الصلد الذي تطلب وقتا وجهدا هائلا من الحرفيين لنحته وتشكيله لصناعة أغراض توارى مع المتوفى.
وكان العلماء الصينيون في الماضي يعتقدون أن أول أسرة تولي اهتمامها باليشم كانت أسرة “تشو” التي حكمت مدة طويلة وجاءت بعد أسرة شانغ في الألفية الأولى قبل الميلاد.
لكن يشير ما دللت عليه مكتشفات ليانغتشو إلى غير ذلك، والحجر العظيم الذي رأيته وقد نحت من نوع نقي من اليشم بلون مائل للبياض دلل على ذلك باعتباره ربما أفضل أحجار ليانغتشو من اليشم، وقد أدهشتني أناقة العمل مع بساطته، ولو قيل لك إن نحاتا من القرن العشرين كالنحات كونستانتين برانكوزي هو الذي أبدعه لصدقت ذلك.
أما بالنسبة لمغزى نقش هذا الكائن “البشري-الوحشي” حسبما يصفه بعض مؤرخي الفن، ففي ظل غياب سجلات مكتوبة من موقع ليانغتشو، ليس أمام العلماء إلا التكهن.
وحتى الآن لا يمكننا الجزم بأن النقش يصور معبودا أم أحد نبلاء ليانغتشو، وقد كان بعضهم كالعرّافين والكهنة يرتدون أغطية رأس ريشية.
ويعتقد العالمان رنفريو وليو أنه بالإمكان تفسير النقش على الأرجح في “ضوء الأعراف الاجتماعية كرمز له دلالة للعقل الجمعي للمدينة” أو بمعنى آخر ربما كان حل الأحجية يتمثل في الإشارة إلى أنه رمز من رموز المدينة أو شعار لها، مثلما تتخذ المدن الحديثة شعارات ورموزا.